حكم ساب الدين، وحكم من سمع منه ولم يُنكر
فإن هذه من أمهات البلايا التي أطلت برأسها في بلدان المسلمين، وصارت في كثير من تلك البلاد إحدى المظاهر المعروفة المألوفة بين الناس، ينشأ عليها الصغير ويهرم الكبير، بل ويتفنن السابون في اختراع ألوان من ذلك مما لا تخطر على بال إبليس لعنه الله.
فتجد المرء منهم لأدنى شيء مما قد يعكر عليه صفوه ويثير حفيظته ويهيج غضبه يهدر بأنواع من السب القبيح الذي لا يرضاه الإنسان للبهائم والعجماوات فضلا عن أن يكون لرب الأرض والسماوات، الواحد الأحد، الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والكافرون علوا كبيرا، وما قدروا الله حق قدره.
وهذا إن دل على شيء؛ فإنما يعرِّفك بالدركات التي وصل إليها حال المسلمين من الضعف والهوان، حتى يصبح بينهم من أبنائهم وعشيرتهم من يتجرأ بالمجاهرة بسب الرب والدين والتبجح بذلك والتفنن فيه والمبالغة في تجديد أشكاله كل يوم، ومع هذا كله لا يقدر أحد أن يوقفه عند حده ويمنعه من كفره.
إن الله سبحانه وتعالى قد نهى عباده المؤمنين من سب الكافرين - مع كفرهم وجرأتهم على الله عز وجل - لسد باب مفسدة عظمى؛ وهي تجرؤهم على سب الله عز وجل، فقال سبحانه: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} [الأنعام: 108].
ولعمر الحق لم يخطر ببال أولئك الكفرة الغلاظ العتاة؛ أن تصل جرأتهم إلى هذا الحد الفظيع من السب القبيح، فهم مع ذلك الكفر والمحادة لله ورسوله والمشاقة للحق والهدى؛ إلا أن في قلوبهم شيئا من تعظيم الله وتوقيره، ولهذا كانوا عندما تدلهم الخطوب وتختلط عليهم الأمور وتشتد الأزمات - في البر والبحر - يلجئون إلى الله، فيدعونه تضرعا وخيفة، كما حكى الله عز وجل عنهم ذلك في آيات عدة من كتابه.
أما هؤلاء المجرمون؛ فلا يزدادون إلا كفرا وجرأة وتنكرا للحق ونكرانا لنعم الله، ومقابلتها بالسب والسخط، كما نرى ذلك كثيرا في المآتم وعند حلول المصائب، وعند التنازع والتخاصم والمشادات التي تحصل بينهم، فأين أولئك الكفرة - مع عظم كفرهم وقبح ضلالهم - من هؤلاء المارقين المرتدين.
كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن كان - أي الساب - مسلما وجب قتله بالإجماع، لأنه بذلك كافر مرتد، وأسوأ من الكافر، فإن الكافر يعظم الرب، ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له) [الصارم المسلول: ص 546].
وعندما يتأمل المسلم في فشو هذا الأمر وانتشاره بصورة مخيفة في شتى البلاد الإسلامية؛ لا يسايره أدنى شك أن الأمر قد حيكت خيوطه بليل، وأن وراء بروزه وشيوعه جهات تتعمد نشره بين الناس وتقصد إلى تربيتهم عليه، ساعية بذلك في نزع أي تعظيم أو خشية لله عز وجل من قلوب الخلق، وتهوين أقبح القبائح وأشنع الفواحش على النفوس والقلوب.
وإلا فيكف يمكن أن تستمع إلى سب في أقصى المغرب - مثلا - ثم تجد عين العبارات وبنفس الكيفية والأسلوب في الشرق؟! ولو كان هذا مجرد تقليد الناس بعضهم لبعض وتلقفهم العفوي للعبارات لما كان بهذه الصورة الشائعة وعلى هذا المستوى الكبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فحكم من سب الله عز وجل أو سب دينه أو استهزأ بآية من آياته؛ أنه كافر مرتد، له جميع أحكام المرتد، وهذا باتفاق العلماء، لا يختلفون في ذلك، كما دل على ذلك كتاب الله عز وجل، حيث يقول سبحانه: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونعلب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} [التوبة: 65-66].
قال الإمام ابن كثير في سبب نزول هذه الآية: (عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء"! فقال رجل: "كذبت! ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن، فقال عبد الله بن عمر: أنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول؛ يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون... الآية}) [ج2/ص351].
وأين مقولة هؤلاء الركب من شناعة ووقاحة سب هؤلاء المرتدين؟! فالله سبحانه وتعالى رغم ما ادعاه أولئك من أنهم كانوا يخوضون ويلعبون؛ حكم عليهم بالكفر، ورد عليهم اعتذارهم فلم ينفعهم شيئا.
وكما ذكرنا؛ فإن كفر من سب الله عز وجل لا اختلاف فيه بين العلماء، وقد نقل الاتفاق على ذلك كثير منهم، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الفقه من ذكر ذلك فلا حاجة للإطالة بذكره.
والعلماء إنما اختلفوا؛ هل تقبل توبته؟ أم يتعين قتله ولا بد تاب أم لم يتب؟ وبسط ذلك له موضع آخر.
أما من كان حاضرا لمجالس السب - والعياذ بالله تعالى - فلا يخلو أمره من هذه الحالات:
الأولى؛ أن يكون راضيا بما يسمع، موافقا لهم:
فهذا حكمه حكم الساب، سواء بسواء، لقول الله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } [النساء: 140].
الثانية؛ أن ينكر عليهم سبهم ويرد عليهم مقولتهم، وذلك بحسب قدرته واستطاعته، وإن عجز عن ذلك فارق مجلسهم:
فهذا مأجور إن شاء الله، لان مستجيب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) [رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري].
ولدخوله في عموم قول الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104].
الثالثة؛ أن يكون مكرها إكراها حقيقيا معتبرا على بقائه في المجلس الذي يسب فيه الرب عز وجل، ومع ذلك فهو ينكر ما يسمعه بقلبه، ويود أن لو يجد سبيلا لمفارقتهم والانفكاك عنهم:
فهذا معذور، لقول الله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل: 279].
أما إن كان ظاهر أمره الإكراه، ولكن قلبه منشرح لما يسمعه من الكفر، راكن إليه، مطمئن به؛ فهذا - وإن عذرناه بحسب ما يظهر لنا من حاله - إلا أنه منافق كافر في حقيقة أمره، وهو في الدرك الأسفل من النار إن مات على حاله ولم يتب.
الرابعة؛ أن يكون جالسا مع القوم السابين المرتدين، ولا يظهر منه ما يدل على إقراره لقولهم أو إنكاره عليهم، وليس هناك ما يمنعه من الانصراف عنهم ومفارقة مجلسهم:
فهذا إن لم يقع في الكفر، فلا يبعد عنه، فإن بقاءه بينهم وسماعه لكفرهم مع عدم إنكاره عليهم؛ يدنو من كونه إقرارا لهم، ولكن لا يقطع بذلك لبقائه في دائرة الاحتمالات.
أما وقوعه في الإثم؛ فهذا لا شك فيه.
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: (قوله {إنكم إذا مثلهم}، يعني؛ نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها، وأنت تسمعون فأنتم مثله، يعني؛ فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال مثلهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم، وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله، فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها، فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله وإتيانكم ما نهاكم الله عنه، وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم) [تفسير ابن جرير: ج4/ص330].
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه، فلهذا قال تعالى: {إنكم إذا مثلهم} في المأثم، كما جاء في الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليه الخمر") [تفسير ابن كثير: ج1/ص537].
وقال القرطبي: (قال الله عز وجل: {إنكم إذا مثلهم}، فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم، يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم؛ فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية) [تفسير القرطبي: ج5/ص268].
فالأمر في غاية الخطورة.
والطامة الكبرى؛ أن بعض البلاد التي يكثر فيها السب، صارت مخالطة السابين ومساكنتهم والتعامل معهم بلاء عاما، فقد يسمعه المرء في بيته من أبيه وأمه وإخوانه، ويسمعه من سائق الأجرة، وفي المتاجر والشوارع والمؤسسات.
فعلى المرء أن ينكر حسب استطاعته وقدرته، وأن يتجنب الاستئناس بمخالطتهم، فإن ذلك يورث اعتياد القلب على ذلك واستهانته يوما بعد يوما به، وعدم استشعار خطورته وفظاعته.
ونسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويذل أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر.
والله تعالى أعلم
حكم ساب الدين، وحكم من سمع منه ولم يُنكر
فإن هذه من أمهات البلايا التي أطلت برأسها في بلدان المسلمين، وصارت في كثير من تلك البلاد إحدى المظاهر المعروفة المألوفة بين الناس، ينشأ عليها الصغير ويهرم الكبير، بل ويتفنن السابون في اختراع ألوان من ذلك مما لا تخطر على بال إبليس لعنه الله.
فتجد المرء منهم لأدنى شيء مما قد يعكر عليه صفوه ويثير حفيظته ويهيج غضبه يهدر بأنواع من السب القبيح الذي لا يرضاه الإنسان للبهائم والعجماوات فضلا عن أن يكون لرب الأرض والسماوات، الواحد الأحد، الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والكافرون علوا كبيرا، وما قدروا الله حق قدره.
وهذا إن دل على شيء؛ فإنما يعرِّفك بالدركات التي وصل إليها حال المسلمين من الضعف والهوان، حتى يصبح بينهم من أبنائهم وعشيرتهم من يتجرأ بالمجاهرة بسب الرب والدين والتبجح بذلك والتفنن فيه والمبالغة في تجديد أشكاله كل يوم، ومع هذا كله لا يقدر أحد أن يوقفه عند حده ويمنعه من كفره.
إن الله سبحانه وتعالى قد نهى عباده المؤمنين من سب الكافرين - مع كفرهم وجرأتهم على الله عز وجل - لسد باب مفسدة عظمى؛ وهي تجرؤهم على سب الله عز وجل، فقال سبحانه: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم} [الأنعام: 108].
ولعمر الحق لم يخطر ببال أولئك الكفرة الغلاظ العتاة؛ أن تصل جرأتهم إلى هذا الحد الفظيع من السب القبيح، فهم مع ذلك الكفر والمحادة لله ورسوله والمشاقة للحق والهدى؛ إلا أن في قلوبهم شيئا من تعظيم الله وتوقيره، ولهذا كانوا عندما تدلهم الخطوب وتختلط عليهم الأمور وتشتد الأزمات - في البر والبحر - يلجئون إلى الله، فيدعونه تضرعا وخيفة، كما حكى الله عز وجل عنهم ذلك في آيات عدة من كتابه.
أما هؤلاء المجرمون؛ فلا يزدادون إلا كفرا وجرأة وتنكرا للحق ونكرانا لنعم الله، ومقابلتها بالسب والسخط، كما نرى ذلك كثيرا في المآتم وعند حلول المصائب، وعند التنازع والتخاصم والمشادات التي تحصل بينهم، فأين أولئك الكفرة - مع عظم كفرهم وقبح ضلالهم - من هؤلاء المارقين المرتدين.
كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فإن كان - أي الساب - مسلما وجب قتله بالإجماع، لأنه بذلك كافر مرتد، وأسوأ من الكافر، فإن الكافر يعظم الرب، ويعتقد أن ما هو عليه من الدين الباطل ليس باستهزاء بالله ولا مسبة له) [الصارم المسلول: ص 546].
وعندما يتأمل المسلم في فشو هذا الأمر وانتشاره بصورة مخيفة في شتى البلاد الإسلامية؛ لا يسايره أدنى شك أن الأمر قد حيكت خيوطه بليل، وأن وراء بروزه وشيوعه جهات تتعمد نشره بين الناس وتقصد إلى تربيتهم عليه، ساعية بذلك في نزع أي تعظيم أو خشية لله عز وجل من قلوب الخلق، وتهوين أقبح القبائح وأشنع الفواحش على النفوس والقلوب.
وإلا فيكف يمكن أن تستمع إلى سب في أقصى المغرب - مثلا - ثم تجد عين العبارات وبنفس الكيفية والأسلوب في الشرق؟! ولو كان هذا مجرد تقليد الناس بعضهم لبعض وتلقفهم العفوي للعبارات لما كان بهذه الصورة الشائعة وعلى هذا المستوى الكبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فحكم من سب الله عز وجل أو سب دينه أو استهزأ بآية من آياته؛ أنه كافر مرتد، له جميع أحكام المرتد، وهذا باتفاق العلماء، لا يختلفون في ذلك، كما دل على ذلك كتاب الله عز وجل، حيث يقول سبحانه: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونعلب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين} [التوبة: 65-66].
قال الإمام ابن كثير في سبب نزول هذه الآية: (عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك: "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء"! فقال رجل: "كذبت! ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن، فقال عبد الله بن عمر: أنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة، وهو يقول؛ يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون... الآية}) [ج2/ص351].
وأين مقولة هؤلاء الركب من شناعة ووقاحة سب هؤلاء المرتدين؟! فالله سبحانه وتعالى رغم ما ادعاه أولئك من أنهم كانوا يخوضون ويلعبون؛ حكم عليهم بالكفر، ورد عليهم اعتذارهم فلم ينفعهم شيئا.
وكما ذكرنا؛ فإن كفر من سب الله عز وجل لا اختلاف فيه بين العلماء، وقد نقل الاتفاق على ذلك كثير منهم، ولا يكاد يخلو كتاب من كتب الفقه من ذكر ذلك فلا حاجة للإطالة بذكره.
والعلماء إنما اختلفوا؛ هل تقبل توبته؟ أم يتعين قتله ولا بد تاب أم لم يتب؟ وبسط ذلك له موضع آخر.
أما من كان حاضرا لمجالس السب - والعياذ بالله تعالى - فلا يخلو أمره من هذه الحالات:
الأولى؛ أن يكون راضيا بما يسمع، موافقا لهم:
فهذا حكمه حكم الساب، سواء بسواء، لقول الله تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم } [النساء: 140].
الثانية؛ أن ينكر عليهم سبهم ويرد عليهم مقولتهم، وذلك بحسب قدرته واستطاعته، وإن عجز عن ذلك فارق مجلسهم:
فهذا مأجور إن شاء الله، لان مستجيب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) [رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري].
ولدخوله في عموم قول الله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104].
الثالثة؛ أن يكون مكرها إكراها حقيقيا معتبرا على بقائه في المجلس الذي يسب فيه الرب عز وجل، ومع ذلك فهو ينكر ما يسمعه بقلبه، ويود أن لو يجد سبيلا لمفارقتهم والانفكاك عنهم:
فهذا معذور، لقول الله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم} [النحل: 279].
أما إن كان ظاهر أمره الإكراه، ولكن قلبه منشرح لما يسمعه من الكفر، راكن إليه، مطمئن به؛ فهذا - وإن عذرناه بحسب ما يظهر لنا من حاله - إلا أنه منافق كافر في حقيقة أمره، وهو في الدرك الأسفل من النار إن مات على حاله ولم يتب.
الرابعة؛ أن يكون جالسا مع القوم السابين المرتدين، ولا يظهر منه ما يدل على إقراره لقولهم أو إنكاره عليهم، وليس هناك ما يمنعه من الانصراف عنهم ومفارقة مجلسهم:
فهذا إن لم يقع في الكفر، فلا يبعد عنه، فإن بقاءه بينهم وسماعه لكفرهم مع عدم إنكاره عليهم؛ يدنو من كونه إقرارا لهم، ولكن لا يقطع بذلك لبقائه في دائرة الاحتمالات.
أما وقوعه في الإثم؛ فهذا لا شك فيه.
قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: (قوله {إنكم إذا مثلهم}، يعني؛ نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها، وأنت تسمعون فأنتم مثله، يعني؛ فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال مثلهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم، وأنتم تسمعون آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله، فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتوه منها، فأنتم إذا مثلهم في ركوبكم معصية الله وإتيانكم ما نهاكم الله عنه، وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع من المبتدعة والفسقة عند خوضهم في باطلهم) [تفسير ابن جرير: ج4/ص330].
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية: (أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه، فلهذا قال تعالى: {إنكم إذا مثلهم} في المأثم، كما جاء في الحديث: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليه الخمر") [تفسير ابن كثير: ج1/ص537].
وقال القرطبي: (قال الله عز وجل: {إنكم إذا مثلهم}، فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم، يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها، فإن لم يقدر على النكير عليهم؛ فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية) [تفسير القرطبي: ج5/ص268].
فالأمر في غاية الخطورة.
والطامة الكبرى؛ أن بعض البلاد التي يكثر فيها السب، صارت مخالطة السابين ومساكنتهم والتعامل معهم بلاء عاما، فقد يسمعه المرء في بيته من أبيه وأمه وإخوانه، ويسمعه من سائق الأجرة، وفي المتاجر والشوارع والمؤسسات.
فعلى المرء أن ينكر حسب استطاعته وقدرته، وأن يتجنب الاستئناس بمخالطتهم، فإن ذلك يورث اعتياد القلب على ذلك واستهانته يوما بعد يوما به، وعدم استشعار خطورته وفظاعته.
ونسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل الطاعة، ويذل أهل المعصية، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر.
والله تعالى أعلم
ضع تعليقك